الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

قَليلٌ مِنَ الحُّريَّة كثيرٌ مِنَ الإِنسانيَّة: مِن مُذَكراتي #3




اليوم الثالث: الخميس 15\11\2012
 

ثلاثة هم رفاق كفاحي أو بالأحرى رفاق ثورتي،هم: أختي "عهود"، صديقتي "فاطمة"، وحقيبة العمليات الخاصة.
تعرفتم على "عهود" و"فاطمة" أما "حقيبة العمليات الخاصة" فهي حقيبة ظهر ابتعتها من تركيا، كنت أضع فيها التالي: الماء والخميرة -وقد أثبتت فعاليتها لعلاج الغاز المسيل للدموع-، البصل، كحول، شاش، مسحات كحولية، لصقات جروح، لاصق طبي، قناعات، وبيبسي (والذي يستخدم أيضاً لعلاج الغاز المسيل للدموع)، يعني اسعافات أولية.
في هذا اليوم خرجت أنا و"عهود" أما "فاطمة" فوصلت متأخرة.
بدأت المظاهرة في تمام الساعة السابعة، وفي تمام السابعة وعشر دقائق كانت عمليات القمع قد بدأت واليوم كانت شرسة جداً فقد لا حقنا الدرك بين البيوت، وفي الشوارع الضيقة لرمي الغاز المسيل للدموع علينا.
عندما بدأت المظاهرة كانت خلفي إمرأة مع ابنتيها وابنها، وكنت قد أخبرتهم بمجرد سماعكم صوت مثل الطخ، غطوا أنوافكم واهرباوا ولم أنهي حتى طبقوا ما قلت، دعني أقف هنا قليلاً وأسألك: لماذا يا ترى إمرأة تعرض أبنائها للخطر وتخرج لتتظاهر معهم؟؟ إنها تعلمهم الحرية على أرض الواقع لا مجرد كلمات تتلوها عليهم قبل أن يناموا
ولماذا يا ترى خرجت بأهل بيتها؟؟ لأنها ضاقت عليها الحال فلم تعد تحتمل أن تصمت بعد اليوم، وأرادت أن يسمع كل العالم صوتها، أعتقد أن أولاد هذه المرأة لن يعرفوا يوماً ذلاً فقد أذاقتهم أمهم طعم الحرية.
 وما ان دخلت أول شارع حتى شاهدت فتيات على الأغلب أنهن من الاتجاه اليساري على الأرض غير قادرات على التنفس وعيونهم حمراء، فما كان مني إلى أن أخرجت علبة الماء والخميرة وبدأت برشها على وجوههم لتيحسنوا، اما عهود فقد كانت على بعد أمتار مني وتناديني، وحقيقة لم أعرها أي انتباه لسبب بسيط أني مشغولة بهم، وعندما انتبهت كان الدرك على بعد أمتار مني وكانت تحاول تحذيري، فأمسكت يدها وركضنا، واختبئنا خلف سيارة ولكن قنابل الغاز المسيل للدموع كانت تنهال علينا من كل جانب، فاضررنا الهرب أكثر، في أثناء ركضنا وجدنا مجموعة من الشباب، فعلياً أجمل شعور قد تشعر به في مثل هذه المواقف هو تلك المشاعر الأخوية التي تعالت فوق كل حدود التمييز وتوحدت تحت راية الوطن، لا أعرف هؤلاء الشباب وهم كذلك لا يعرفونني، لا أعرف اتجاهاتهم ولا أعرف أفكاره وانتمائاتهم ولكني أعرف عنهم حقيقة واحدة أنهم خرجوا وأتوا إلى هنا لسبب واحد هو "الحرية"، ومن يطلب "الحرية" يتخلق بأخلاقها.
 ولكنهم كانوا حريصين على أن لا يصيبنا أي أذى وأنا كذلك كنت فقد كان أحدهم غير قادر على الرؤية من الغاز فقلت له أن يخلع نظاراته ورششت الماء والخميرة على وجهه ولكن الرشاش خانني هذه المرة ولم يرش فيبدو أنه تعطل، وكان الدرك خلفنا فقال لي: "امشي بعدين بترشي"، وعندما ابتعدنا قمت بفتح العبوة ووضع الماء والخميرة بين يديه ليمسح وجهه.
توجه الشباب الذين معنا ودخلوا لصلاة العشاءوقالوا بعد الصلاة نعود، فبقيت أنا و"عهود" خارج المسجد ننتظرهم، فلما تأخروا قررنا الاتجاه نحو شركة المياه في جبل الحسين وكلما توجهنا نحو شارع وجدنا الدرك فيه ويلقون الغاز المسيل للدموع على الناس، حتى أن المارة قد اختنقوا من رائحة الغاز ويقال أن الغاز قد دخل البيوت هناك وهذا منطقي فقد رموا غاز يكفي أن يخنق الأردن بأكملها، في أثناء مسيرنا وجدنا فتيات يتجهن إلى ذلك الاتجاه فمشينا سوياً وعندما وصلنا الشارع الرئيس كان الدرك يمشي للأعلى وقد حاصر الشباب من جهتين، لم أخف يومها رغم تحذيرات الشباب وتحذيرات "عهود" التي ترافقني طوال الطريق، ولكنني أخبرتها أنني جئت لأجل "وطني" فلن أعود.
يبدو أن " الخوف" وضعناه في بيوتنا قبل ان نخرج فلم نخاف أو نهاب من "الدرك" أو غيرهم بل كنا على استعداد تام لنموت ولا نأبه مادام أننا سنحيي "وطناً"، وماهي إلا دقائق معدودة حتى تجمع الشباب مرة أخرى لنعاود الهتاف، وليعود الدرك ويستخدم نفس الأساليب الرخيصة، ولكن ماذا يفعلون بشباب عشقوا "الموت" كعشقهم أن "يعيشوا بكرامة" فكلاهم متساوٍ عندهم، فما معنى أن نحيا بـ"ذل"؟؟ ويكمن سر الحياة في أن نحيا "كراماً"
قبل أن نتجمع مرة أخرى وصلت "فاطمة" وكلمت صديقاً لنا فأخبرها بانهم توجهوا نحو "الديوان الملكي" حاولنا اللحاق بهم ولكنهم كانوا يتقدمونا بكثير، فكلمت صديقاً آخر وهو أحد الشباب المشاركين معنا، فأخبرني أنهم قد تجمعوا في "جبل الحسين" فذهبنا إليهم، واستمرت كما العادة عمليات "الكر والفر" إلا أن قررنا اللحاق بمن ذهب إلى الديوان، وفعلاً بدأنا المسير، وما أجمل أن تمشي بين الأحياء وأنت تهتف، فأنت "تحيي" أناساً، نسوا معنى أن يحيوا "كراماً".
في أثناء المسير وعلى شارع الأردن بالذات مرت ثلاث مدرعات للدرك، وكلمنا صديقنا الذي وصل الديوان وأخبرناه بأن "القوات الخاصة" قد أتت إلى منطقة الديوان، ولم نخف أيضاً وواصلنا المسير إلا أن وصلنا هناك، إلى "الديوان الملكي، وعينك ما تشوف إلا "النور".
قد تشعر نفسك في ساحة للقتال ولكنك أبداً لن تشعر أنك في وطنك، فهل يعقل أن يقتلك وطنك؟؟ هل يعقل أن يتحول وطنك إلى سجنٍ كبير؟ هل يكون وطنك مقبرة الحرية؟
هي كأرض المعركة، ولكنها معركة بين ظلم وحرية، بين كرامة وذل، ولكن للأسف أنها بين أبناء الوطن الواحد، يعيشون على نفس الأرض ويتنشقون نفس الهواء، حتى انهم يسجدون على نفس التراب ويرفعون أيديهم إلى نفس السماء.
كنا فعلياً في منطقة كالوادي، من أعلى الجبل هناك "بلطجية" يرموننا بالحجارة، وبعيني رأيت سيارات الدرك تمر من خلفهم لتنزل من الجهة الأخرى ويبدأ حصار من ثلاث جهات من الأمام والخلف والمنفذ الوحيد غير الشارع الرئيسي أيضاً مغلق بقوات الدرك، قبل أن يبدأ الهجوم الأخير أخبرت "فاطمة" أنني وعهود قررنا أن نعود للمنزل فقد تأخر الوقت، وانطلقنا من الجهة المعاكسة ولكن على الشارع الرئيس فوجدنا قوات الدرك تمطرنا بقنابل الغاز والمرور من هناك شبه مستحيل، عدنا إلى "فاطمة" وأخبرناها الخبر، بقيت هي مكانها واخترنا أن نغادر من الشارع الفرعي، وما أن مشينا به إلا وقوات الدرك تمطرنا بالغاز المسيل للدموع، سألت أهل البيوت هناك إن كان هناك منفذ فأشاروا إلى درج يقودنا إلى الأعلى.
صعدت الدرج أنا وعهود، ويبدو أن درج يؤدي إلى درج، لم أكن أعرف المنطقة، مما فرض علينا أن نسأل كلما مررنا من شخص، كان هناك شاب يجلس على عتبة الدار وينهي سيجارته سألته عن الطريق، فجاء صوت من خلفي يقول:
"تعالي يا أختي، أنا بعرف الطريق، امشوا معي"
كان هناك تنبيه عن اعتقالات تتم من قبل مدنيين، ولا أدري لماذا وثقت به ولكن يبدو أننا تنشقنا نفس ريح الحرية، فشعرت بحريته، فوثقت به، مشينا معه وكان معه مجموعة من الشباب لا تتجاوز الخمسة، وما أروع روح الشباب!
أو أن شباب وطني يملكون روحاً محلقة، تسمو على كل المعاني الأرضية، فكان أحدهم ينشد "يا يما عتمات السجن" لفريق الوعد، وما اجمل ذلك الصوت الذي صدح بكل الحب والحق، والذي أضحكني أنه لم يكن قربنا غاز مسيل للدموع، ولكنهم كانوا يشمون البصل وكانهم يحملون ياسميناً، ويبدو أن البصل هو ياسمين وطني.
وصلنا إلى طريق مغلق وعلى يمينه درج ، فأخبرت الشاب بأننا سنخرج من هنا إلى الشارع الرئيسي، فسألني أين نسكن وأخبرته، فقال لي أنكم تسكنون قربنا لا بأس سأوصلكم، فكرت كثيراً قبل الرد، وأكثر ما خفت منه هو الاعتقال، همست في أذني عهود، وقالت: تأخر الوقت كثيراً، لا بأس إن أوصلنا فوافقت.
عندما ركبنا في السيارة طلبت منه أن يعرفني عن نفسه إن أراد فوافق وعرفته عن نفسي، طوال الطريق لم ينطق أحدنا بحرف واحد، كان الصمت هو سيد الموقف، ربما أن كل منا حلق بأفكاره لما حدث، أو صابته صدمة فكرية، أو أنه يعيد حساباته، ولكن ما كنت واثقة منه أن كل واحد منا كان في عالم مختلف.
عندما وصلنا البيت شكرته على ذلك، فقال لي: انتو يعطيكم العافية، كنت أتوقع أن يلومنا ولكنه شكر ذلك فينا، على الأقل بدأ شباب وطني يتقبلون وجودنا كـ"فتيات" إلى جانبهم لنحصِّل حقوقنا جنباً إلى جنب، وأن هذا الوطن وطننا جميعاً باختلافنا وعلينا جميعاً أن نكون يداً واحدة لنحصل على "بقايا كرامتنا".
انتهى هذا اليوم بقسوته، وهل تعلم مقدار الجرح الذي تزرعه الأم في قلب طفلها؟؟ هو نفس الجرح الذي زرعه وطني في قلبي، جرح أعمق من أن يؤلم فهو وصل مرحلة النزيف، نعم لقد كان وطني يؤلمني، بسبب وطني بكيت، بسبب وطني انتفضت وكان لدي إصرار لأكمل الطريق، هم لم يعرفوا يوماً حب الوطن أما نحن فعشقنا الوطن عشقاً حتى أصبحت ذرات أجسادنا تهتف باسمه، وأرواحنا سكنت أرضه قبل سماه.
عندما علمت أمي بما حدث معنا قررت "أنه لا مسيرات بعد اليوم" وقرار مثل هذا بالنسبة لي أن تمنع عني الهواء، فالحرية هي هواء الروح، وبقيت إلى وقت متأخر احول إقناعها حتى يبدو أنها وافقت مضطرة، أو تحت ضغط كبير مني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق